• سبورتينغ لشبونة
    مانشستر سيتي
  • سلوفان براتيسلافا
    دينامو زغرب
  • ريال مدريد
    ميلان
  • بي إس في آيندهوفن
    جيرونا
  • ليفربول
    باير ليفركوزن
  • ليل
    يوفنتوس
  • بوروسيا دورتموند
    شتورم غراتس
  • سلتيك
    لايبزيج

كرونو

أيوب سادني ومنصف بوجا
أيوب سادني ومنصف بوجا

بورتريه/ بوجا وسادني.. من "وصمٍ" أفرزته "احتياجات خاصةٍ" إلى مُعانقة المجد وانتزاع الاعتراف

قُبيل انطلاق صافرة بداية السِّباق ببضع ثوانٍ، كان مُنصف بوجا نهباً للشُّكوك وفريسةً للخوف، يغوصُ في أفكارٍ تُلزمه بالانتصار ولا شيء عداه، حتى يثأر لنفسه أولاً وكل من ارتاب في قُدرته على تحقيق شيء. استرجع حينها شريط حياته كاملاً وعرَّج على أبرز لحظاته، خاصة لمّا كان يُنظر إليه بـ"دونية" من البعض، ويُرمق إليه كأنه "عاجزٌ" لا مُنتجاً، مُسدّداً ضريبة مرضٍ حاد خُلق معه ولا ذنب له فيه، فهو بالكاد يُبصر وليس بوسعه ذلك أبعد من مسافة متر واحد، وبعينٍ واحدة فقط.

كان يُشارك عندها في الألعاب البارالمبية بـ"طوكيو 2020" التي أُقيمت عام 2021، وبالتحديد في العدو ضمن نهائي مسافة 400 متر صنف "T12". يتملَّكه الطموح لكسب الرِّهان لكن تُحاصره في الآن ذاته ما التقطته نفسه طيلة حياته من عبارات السُّخرية والتهُّكم لضُعف بصره الحاد. استعان مُنصف بآيات قرآنية للتخلُّص من وساوسه وعَقد العزم في مسار لا رجعة فيه، تجاوز فخّ الانطلاقة السيئة الذي كان يُشكّل لديه أكبر مخاوفه ووجد نفسه بعد الـ300 متر الأولى ثانياً، بدأ يلمح الهدف ويُلامسه، رَسم توقعاتٍ بأنه قد يُصبح بطلاً بارالمبياً في ظرف ثوانٍ، ثم ما فتئ حُلمه أن تكسَّر أو تأجلّ بالأحرى بعد انقياده للإصابة في الـ100 متر الأخيرة.

بعد وقبل ذلك، فصول كثيرة خَبِرها مُنصف، خاض معارك على مختلف الجبهات، يُغالب قصور نظره كي يستجيب بصعوبة بالغة لمتطلبات الحياة اليومية وأنشطتها، بينما يُكافح ويُروّض نفسه على التعايش مع ما يعتقده عنه البعض "زوراً" بأنه عاجزٌ ولا جدوى له. لم يدُر بِخُلده بأنه مُنغمس بوعي أو عن غير وعي في كتابة قصة مُفعمة بالإلهام وحافلة بالعِبر، ولعلّ أبرز ما جادت به قريحته لمّا قال: "لقد خلخلت المنطق واستيقنت بأن الحياة لا تعترف بأي مستحيل".

هُما رفيقان بينهما قواسم مُشتركة بالجملة، يقضيان القِسط الأوفر من اليوم سوياً، يستندان إلى بعضهما البعض في الأوقات الصّعبة ويقتسمان نشوة الانتصارات الفردية والمشتركة. مُنصف بوجا، البطل المغربي البارالمبي، صاحب الـ26 سنة، قاده القدر إلى نسج علاقة صداقة قوية بالبطل المغربي والبارالمبي الآخر، أيوب سادني، الذي يشكو بدورة "احتياجا جسدياً خاصاً" على مستوى يدِه اليُمنى الضّامرة، لكنه يفيض في الوقت نفسه بطاقاتٍ انبثقت من رحم المعاناةٍ وتولَّدت في غمرة التحديات والصعوبات.

تَهطلُ سماء العاصمة اليابانية طوكيو بأمطار غزيرة، هو يومٌ موعود بالنسبة لأيوب لطالما هامَ بهِ، تركيزه يتنازعه الحذر من العدائين البرازيليين في نهائي مسافة 400 صنف "T47" وحتمية تقديم نفسه للعالم والمجتمع وتصحيح انطباع كل مُحتَقِرٍ، مُستحضراً في تلك اللحظات الفارقة تفاصيل مساء أمس، حيث قضى في جوف الليل ساعات في الغثيان ودرجة حرارة جسمه مُلتهبة. عاد بعقارب السّاعة إلى تلك المرحلة التي كانت تَكِدُّ فيها والدته عملاً وتقترض أيضاً حتى تَهِبهُ ثلاثين درهما (3 دولار) يومياً كي يتنقَّل إلى التداريب ويُلبّي احتياجاته من مأكلٍ ومشرب بعيداً عن البيت، كما تذكَّر تسديد والديْه لـخمسة ملايين سنتيم (5 آلاف دولار) ليُجري عملية جراحية سنة 2017 بعد إصابته بتمزق في الرباط الصليبي، وهو المُنحدر من أسرة مُعوزة تقطن بإحدى دور الصفيح ضواحي الرباط.

عَاد انتباهُ أيوب إلى القبض على تلك الفكرة التي شكّلت رجّةً في حياته وكانت نقطة تحوُّلها، استمدَّ شحنةَ من الغضب النابع مما كان يُوجّه له من ألقاب "قدحية" أبرزها "مُعاق" بسبب "احتياجه الجسدي الخاص" وحوّلها إلى وقودٍ مثَّل له قُوّة دفعٍ إلى الأمام، استقامت نفسه حينها وبلغ التركيز عنفوانه، كان يشغل الممرّ السابع في حلبة السّباق وكان مُحاطاً ببرازيلييْن يتواجدان بالممريْن السادس والثامن، انطلق السِّباق وفَطِن إلى التكتيك الذي هندسه البرازيليان لإخماد شُعلة حماسه واغتيال حُلمه، رفع البرازيلي الأول إيقاع السباق منذ بدايته لاستنزاف قوى أيوب والعدائين الآخرين فيما ظل البرازيلي الآخر يُراقب السّباق ويتحيَّن فرصة الانقضاض عليه مُتسلِّحاً بسرعته النهائية الخارقة.

إذا ما سأَلْتَ أيوب سادني عن نهاية هذا السّباق وما تلاه من تَداعياتٍ غيَّرت حياته، ستبرق عيناه فخراً واعتزازاً، بيد أنه سيُعيد أيضاً اجترار ما عاناه على امتداد سنوات مُبكّرة، مع المرض والذّات وجزء من المجتمع. تقول والدته (ف): "لازلت أتذكَّر سنواته الأولى في الحياة، فعلت المستحيل وطرقت كل السُّبل حتى يتعافى من إعاقته الحركية في يَده، خضع لعمليتيْن جراحيتيْن الأولى في شهره الرابع والثانية في عامه الأول لكنهما باءتا بالفشل، ومن ثم انطلقت رحلةً حَملت الكثير من التحديات والنّضال والتضحية والكفاح".

أَصْلُ الحكاية.. أرضية من المعاناة والكِفاح

على بُعد عشر دقائق من حلول الموعد الذي برمجناه في أحد مقاهي مدينة سلا، مساء الخميس الماضي، رَنَّ هاتفي وشاشته تُضيْ باسم أيوب، اعتذر لي عن التأخر بحوالي 15 دقيقة عن اتفاقنا الزمني المُحدّد، وعَزَا ذلك إلى ضرورة مروره على منزل منصف كي يقِلُّه إلى المقهى، فهو مُرشده البصري الأساسي تقريباً حينما يلتقيان، يُفضيان لبعضهما البعض بكل شيء وتَصير الأسرار بينهما في خانة المُباح، دون أي حواجز أو عقبات، فهكذا يُجسِّدان معنى الصّداقة كما يتصورانها.

سَبِقَتْهُمَا إلى باب المقهى قهقهات تشي بالانشراح التام وبتحمُّسهما وقابليتهما للحديث عن كل شيء معي، ثم لمحتهما وهما يلجان المكان والابتسامة تعلو محياهما، بادراني بالمصافحة والعناق، وأول ما قاله أيوب بعد إفشاء السلام هو: "اللّيلة ليلتنا"، في إشارة إلى استعداده التام لكي يُدلي بكل ما عاشه وما تجيش به نفسه، ويتحدث عن هذا الجانب بالقول: "نحن مثل كل البشر وربما ما نعيشه خلف الستار أقسى وأفدح لكن نحمد الله على كل ما يأتينا به، في الأعماق رفضٌ وصدٌّ من جزء من المجتمع وسنوات من المعاناة مع الجسد، رغم أننا حاولنا المُكابرة والقفز على مُخلّفات الماضي بشكل خاص، لكن الله يجازي كل صبورٍ ومُحتسب".

تسرد والدة أيوب جزءاً من ذاكرتها المُشتركة مع ابنها وتُعيد الشريط إلى الخلف، وتتحدّث عن السُّبُل التي سلكتها من أجل أن يشعر فلذة كبدها بأنه مثل الجميع ولا يشكو أي مُركب نقص بسبب يده ذات الأربعة أصابع فقط، والمُصابة بارتجاف مُستمر: "في الروّض والمرحلة الابتدائية وحتى الإعدادية والثانوية، كان أيوب يتعرّض للتنمُّر الشّديد من زملائه في المدرسة، ويُنعت بأقدح الأوصاف، فيعود خائباً وخائر القوى النفسية إلى البيت، ثم يصوم عن ارتياد حجرة الدراسة لأيام، فكنت أحاول إغراءه باقتناء الأشياء المُحببة لديه، وبعدها يستكين للأمر ويقصد المدرسة في اليوم الموالي، لكنه سرعان ما يعتزلها ويلازم البيت، لتكرار توجيه ذات العبارات إليه".

"رزقني الله بوالديْن تقبلّا وضعي الصّحي منذ البداية، لكن ما إن بدأت أكْبُر حتى ارتفع منسوب تذمري مما أعيشه، كانوا ينعتونني في المدرسة والشارع بـ'طورتي نينجا' و'المُعاق'، نسبة إلى يدي، كانت دموعي تنهمر بغزارة وأشعر بالعجز، الأمر استمر طيلة سنوات بل حتى عام 2014، أصدقاءٌ لي سواء في الشارع أو المدرسة كانوا يخشون الاقتراب مني، ولمّا فُتح لي باب النجاح الرياضي عادوا هم نفسهم يتودّدون إلي"، يقول أيوب، متوقفاً بين الحين والآخر للارتشاف من كأس حليب على الطاولة.

يلتقط مُنصف خيط الحديث وينخرط بدون حتى أن أسأله في تناول الخلفية التاريخية لحياته وما كابده أيضاً مع ضُعف البصر، قائلاً: "ما دام أيوب قد فتح الجِراح، فإن العديد من الذكريات المؤلمة لازالت عالقة في ذهني، أتذكَّر يوماً في المدرسة الابتدائية في قسمها الرابع، حينما كنت أدرس مع 'الأسوياء'، لفتت انتباه المُعلّم إلى أنني لا أُبصر السبورة الحائطية، فما كان له إلا أن نادى على والدتي بعد ذلك، واعتبر أن ما اشتكيت منه يدخل في إطار التندُّر والتسلية ومحاولةُ شغبٍ فقط وليس من باب الصّدق، فأبرحتني والدتي ضرباً لأنها كذلك لم تكن تتصوّر قصور نظري إلى تلك الدرجة".

ينحدر مُنصف من أسرة تتواجد بها شقيقته الصُّغرى شيماء، التي تعاني نفس مرضه كذلك، ورغم محاولة أسرته لإدماجه في المنهج الدراسي الطبيعي، إلاَّ أنه لم يستطع مجاراة ذلك، وأُحيل في الخامسة ابتدائي على "المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين" فرع تمارة، التي أُنشأت بتوجيه من الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1967، هناك انبعث من جديد الطفل الذي لم يتعدّ سنه آنذاك 11 سنة، وشكّل ذلك الانتقال نقطة تحوُّل في مساره وحياته ومسالكها.

ازداد الشّاب البالغ من العمر 26 سنة في دور صفيحي كان بمدينة سلا يُدعى "سهب القايد"، كان قلبا والديْه مُعلّقان به، وجوارحهما تتحرَّك بعد ولادته مُراقبة بصره وتقلبّاته، ويحكي والده (ع) عن هذه الفترة: "كُنا نشعر أن كبدنا يحترق بعد ولادة مُنصف والوقوف على ضُعف بصره الحاد، في أشهره الأولى كُنّا نشخص النَّظر إلى عينيْه علّه يتفاعل مع الأضواء المُنبعثة نحوه، لكن قدّر اللّه وما شاء فعل، كنا أمام حتمية مرافقته في مسارٍ طويل تطلّب تضحيات كثيرة، بعدما لجأنا إلى كل المستشفيات".

يلتَحِمُ أيوب ومنصف في الإيمان بفكرة رد الاعتبار التي رافقتهما منذ بداية المسار، ظلاَّ مُتشبّعيْن بفلسفة إثبات الذات والبرهنة على أنهما ليسا عالتيْن على المجتمع بسبب "إعاقتهما"، وإنما إضافة وفرديْن يُنتجان ويُقدّمان شيئا مُختلفاً، ومن هذه الزّاوية بدآ يَحُثّان الخطى ولو بتؤدة ويشقّان طريقهما إلى أهدافهما على الصعيد الشخصي ومن خلاله الرياضي. يقول مُنصف في هذا النِّطاق: "أحمد الله، قد أكون محروما من البصر، لكن الله حباني بقوة الإرادة و'قصوحية الرّاس'، كنت دوما أحرص على مُقاربة أحلامي كأهداف حاربت من أجلها، سقطت ونهضت وقمت بكل شيء في سبيل تحقيقها".

معركة تقبُّل الذّات

أدْرك مُنصف منذ اكتسابه أبجديات الحياة محروما من البصر حتمية تقوية مناعته وتعضيد زَادِه بقيم تُعينه على مجاراة الواقع، كان مؤمنا بالقدر خيره وشرّه وأقبل على معيشه اليومي مُتمسِّكاً بالأمل حتى آخر رمق، حتى انفتح أمامه بابٌ لم يكن يخال أنه مُنعرجٌ أضفى ما يمكن اعتبارها بـ"ثورة" في وضعه، ولَج صاحب الـ11 سنة آنذاك "المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين" بمدينة تمارة، ضواحي العاصمة الرباط، حيث انصهر سريعاً في نمطِ حياةٍ جاور فيه من يُشاطرونه ذات الصُّعوبات الصحية.

على المستوى القانوني، تُصنّف حالة منصف في نطاق فئة المكفوفين، بناءً على ظهير ملكي سنَّه الملك الراحل الحسن الثاني، والذي يُدرج في خانة كل من "لا يستطيع تمييز الأصابع على بُعد متر ونصف أو كثر" في هذه الفئة، وقد خصّصت الدولة المغربية مجموعة من الامتيازات لمحاولة تسهيل عيش المكفوفين، الذين يُقدّر عددهم رفقة ضعاف البصر في المغرب بـ500 ألف، وفق آخر دراسة إحصائية رسمية سنة 2018.

تلك الفوارق التي كان يشعر بها صاحب الـ26 سنة بينه وبين فئات مجتمعية أخرى خارجة عن مصاف "ذوي الاحتياجات الخاصة" ذابت بمجرد أن وطأت قدماه "المُنظمة العلوية لرعاية المكفوفين"، من هناك كسب صِراع تقبُّل المرض والتصالح مع الذات، ويحاول هنا وصف المشهد كما يحتفظ به: "في المنظمة رأيت حالات أكثر استعصاء وصعوبة مما أعانيه، ثمة من لا يرى نهائياً، فقُلت في قرارة نفسي حمدا لله لأنني أستطيع الاعتماد على نفسي في بعض الأحيان وفي بعض الحالات".

"في المنظمة شرعت فعلاً في رسم خطوات تصاعدية، حرصت على الدراسة التي كلّلتها بالحصول على إجازة في الحقوق بمُعدّل 14.5/20، تأقلمت هناك ووجدت من يُقاسمني الهموم والإكراهات، وذاك كان فعلا المنعرج الأبرز في حياتي"، يستطرد مُنصف، الذي انتظم بعد التحصيل الدراسي في معارك أخرى تتقدّمها الرغبة في التألق الرياضي وصقل موهبته التي كانت كامنة لسنوات.

في هذا اللّقاء الذي التأمت فيه مع منصف وأيوب وكان من بين لقاءات عديدة أُخرى لسبر أغوار مساريهما، ظلّ أيوب يُنصت باهتمام شديد لما يبوح به رفيقه، كأنه يجد له تاريخا مشتركا مع شخص آخر وكأن ما عاشه يُطابق أو يكاد ما خَبِره مُنصف، لم يُخفِ صاحب الـ25 سنة الصعوبة التي وجدها في التأقلم مع حالته الصحية وانطباعات جزء من المُجتمع تُجاهه، إلى أن حلَّت سنة 2018 والتحق بجمعية تُدعى "تحدِّي الرباط" وتُعنى بالأشخاص "ذوي الاحتياجات الخاصة"، هناك سُحبت من أمام أعين أيوب صفحة سوداء وعوضّتها أخرى أقل قتامةً.

عند انضمامه إلى الجمعية، اكتشف أيوب أصنافاً أكثر تعقيداً من "الإعاقات الحركية"، كما أنه اندمج بسلاسة مع رِفاقه في "تحدي الرباط"، فما كان إلا أن وجد نفسه قد أحرز خطوات إلى الأمام في عملية تقبُّل الذات، ويحكي ابن مدينة الرباط بالقول": "انخراطي في الجمعية ومشاركتي في أنشطتها شكّل تحوُّلا إيجابياً في مسار حياتي، لم تَعُد عبارات السخرية تنال مني بالشكل الذي كانت من قبل، لقد أصبحت أكثر تناغماً مع نفسي".

بداية الأمل والاحتكاك بالرياضة

بينما كان أيوب في مرحلة التعليم الثانوي مُجاوراً زملاءً لا يشكون أي إعاقة جسدية، مثَّلت له حصة التربية البدنية المُندرجة ضمن المنهج الدراسي مُتنفسّاً يُفرّغ من خلاله طاقاته الكامنة. في إحدى الحصص الأسبوعية، رَصَده أستاذ هذه المادة وهَالته الإمكانيات التي يملكها اليافع آنذاك، فاقترح عليه أن يُشارك في مسابقة ركض لمسافة 3000 تُنظَّم في الثانوية، خاض أيوب غِمار هذا التحدّي وحلّ ثالثاً مع أقرانٍ لا يعانون من أي عوز صحي، ليُفرز هذا الوضع إصرار أُستاذ التربية البدنية على دمج تلميذه في نادٍ يُمكن له تأطير قُدراته الرياضية.

انضم أيوب في ذات السنة أي 2014 إلى نادي الفتح الرياضي بالعاصمة الرباط، كان مُنتظماً في التّداريب والمسابقات مع "الأسوياء"، لم تكن هذه التجربة التي امتدت لثلاث سنوات في مستوى تطلعاته، كان يقطع مسافة 400 متر في توقيت لا ينحدر عن 52 أو 53 ثانية، فضلاً عن جانبٍ من "الميز" الذي شعر به على حد قوله: "لم أكن أحس بمعاملة مُنصفة من طرف بعض الأطر، كانوا يُحيلونني على الهامش ويُلزموني بإجراء تمارين توحي بأنني لست من العناصر المُعتمد عليها".

يعتبر ابن مدينة الرباط أن عام 2017 يظل الأسوأ في مساره الرياضي، فقد تعرّض لإصابة في الرباط الصليبي وإحدى العضلات واستلزم ذلك الخضوع لعملية جراحية سدّدتها أسرته على نفقتها لاجئةً إلى الاقتراض وقُدّرت بحوالي 5 ملايين سنتيم (5 آلاف دولار)، فمرّت تلك السنة بيضاء بالنسبة له سواء رياضيا أو دراسياً، كما لو أنها تُهيّئه بالصّلابة اللازمة لسنة موالية تغيَّرت فيها الموازين وتوضّحت فيها الرؤية.

أَقبل أيوب على سنة 2018 بِهمّةٍ صقلتها الصعوبات التي واجهها في العام السابق، وأحدث بعض التغييرات على محيطه الرياضي، إذ قرّر الاشتغال مع المدرب الوطني محمد السنداوي، الذي يقول عنه العدّاء المغربي بأنه "آمن بإمكانياته وسار معه مرحلةً بمرحلةٍ"، وفي غضون شهريْن انخفض زمن ركض مسافة 400 متر إلى 49 ثانية و53 جزء من المئة. كما انضم إلى "نادي تحدي الرباط" الذي يحتضن أنشطة رياضية لـ"دوي الاحتياجات الخاصة"، وهناك ذابت كل الفوارق وبات أيوب يشعر بالفعل بكينونته ووجوديته.

ولمّا أخذ صاحب الـ25 سنة يطوي المسافات نحو الأمام، مسّته سُنّة "الصعود والهبوط" ومُني بخيبة أمل، إذ لم يتم استدعاؤه لمعسكر تدريبي للمنتخب المغربي لـ"ذوي الاحتياجات الخاصة" استعداداً لملتقى مراكش سنة 2018، انهار أيوب ودخل في نوبة بُكاء، فما كادت تمضي بضعة أيام وقبل حلول موعد الملتقى، حتى توصَّل بدعوة المشاركة في المسابقة، وجرى منحه التصنيف الطبي لهذه الفئة، خاض السّباق وحقّق رقما جديداً بالنسبة له هو 49 ثانية و48 جزءاً من المئة.

جرى تصنيف أيوب طبياً - رياضياً ضمن فئة "T47" التي تضم الرياضيين الذين يعانون من إعاقة ما بين المرفق نزولاً إلى اليد، في هذه المرحلة أصبح يستشعر رفقة مدربه محمد السنداوي كأنهما بدآ يتلمّسان الطريق نحو شيء ما مُميز، ويتحدث مدربه بقوله: "أيوب يملك إمكانيات هائلة، لمست ذلك من حصصنا التدريبية الأولى وصوّرت له أن المستقبل سيكون زاهراً بالنسبة له في حال انضباطه وتركيزه على نفسه وتطوير قُدراته".

هذا الرّقم الجديد شرَّع الباب أمام أيوب كي يُشارك في ملتقى تونس لألعاب القوى، وفي هذه المرحلة كان الشّاب مُطوّقاً بضرورة القيام بالاختيار، هل يتراجع عن هذه الخطوة ويظل في المغرب لاجتياز امتحانات الباكالوريا حفاظاً على مساره الدراسي أم يُجازف تحصيناً لحُلمه الأساسي بالتألق الرياضي؟ يقول أيوب في الواقع إنه لم يستهلك وقتاً طويلاً في التفكير وقرّر الذهاب في المسلك الرياضي إلى أبعد حد والتضحية بالامتحانات الدراسية في سبيل خوض الملتقى.

بالنسبة لمُنصف، فقد كانت سيرة انخراطه في المُمارسة الرياضة الاحترافية مُختلفة شيئاً ما عن رفيقه، إذ انضم رأساً إلى مُزاولة اللُّعبة مع "ضعاف البصر والمكفوفين"، لازال يتذكَّر كيف التقط أحد الأُطر موهبته حين كان يُمارس في المنظمة رياضة "كرة الهدف"، شدّته سُرعة انطلاقات منصف، وأرشده سنة 2017 إلى محاولة التخصص في الركض، ويستعيد الإطار "مُختار" هذه الواقعة مُحدّثنا عنها: "كانت انطلاقاته سريعة للغاية، وكنت أرى أنه لم يكن واضعاً موهبته في المكان الصحيح، خاصة أن لعبة 'كرة الهدف' ليست لها آفاقاً عكس الجري والعدو، ومن هذا المُنطلق نصحته بتغيير تخصصه الرياضي".

تأبَّط اليافع المغربي آنذاك هذه النصيحة على محمل الجد، وشارك في ملتقى بمدينة الدار البيضاء وبالتحديد في منطقة "بوركون" ضمن مسافة 100 متر، قطع السباق في 12 ثانية و30 جزءاً من المئة، وكان ذلك بمثابة إنجاز لمُراهق لا عهد له بالمسافات القصيرة، كما خاض سباق 400 متر وقطعه في دقيقة واحدة، ومن هناك بدأ الطريق يتبلور أكثر في نظر منصف، حيث انخرط في تداريب بوتيرة أشد التزاما وبتركيز أكبر تحت إشراف تطوُّعي من الإطار "أ. العلوي"، تأهباً للملتقى الذي سيُقام بالعاصمة الاقتصادية أيضاً بعد خمسة أشهر.

حلَّ موعد المُلتقى وكان مُنصف في مستوى تطلعات نفسه، فقد خفّض رقمه في مسافة 400 متر من دقيقة واحدة إلى حوالي 52 ثانية، ثم أيقن أنه وجد ضالته واهتدى إلى المسار الأنسب له. كان يركض بحذاء متواضع وليس رياضياً مئة بالمئة، فهو ينحدر من أسرة محدود الدّخل وتقطن بإحدى دور الصفيح التي كانت بمدينة سلا، لكن في خضم كل هذه الإكراهات انفتحت نافذة الأمل بالنسبة له، تابعه المدرب الوطني عبد الله بوكراع وعرَضَ عليه التدرُّب مع "الأسوياء"، وقد امتد ذلك من 2018 إلى 2020.

"قطعت على نفسي عهداً بأنني سأتمسّك بخيط هذا الحُلم وهذه الرياضة حتى آخر نفس، أدركت أنني كنت أملك فرصة رُبما لن تتاح لي من جديد، انتظمت بالفعل في التداريب رفقة عدائي المنتخب الوطني الأسوياء وكنت أستفيد منهم ومن توجيهاتهم تحت إشراف السيد بوكراع"، يقول منصف بوجا، الذي شارك في ملتقى مراكش لـ"ذوي الاحتياجات الخاصة" سنة 2020 وهناك بلغ 50 ثانية و30 جزءاً من المئة في مسافة 400 متر.

أطَّر مُنصف نشاطه الرياضي بالممارسة تحت يافطة نادي "التضامن" بمدينة الدار البيضاء، لكنه كان يشتغل بإمكانيات ذاتية ويُعين نفسه في التداريب والحصص بصفة شبه كامل رغم ضعف البصر. تصادف ذلك مع مُغادرته "المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين" واتجاهه نحو الدراسة الجامعية بالموازاة مع مزاولة الرياضة، وأسفر الأمر عن صعوبات عديدة واجهته خاصة على مستوى التنقل، إذ كان ذلك يستلزم الذهاب من المنزل إلى الجامعة ثم إلى "مركب الأمير مولاي عبد الله" لخوض التداريب.

يُلقي ابن مدينة سلا الضوء على الإكراهات التي كانت تُضاعف مشّقاته لدى محاولة صعوده إلى الحافلة، ويقول: "بطاقة الإعاقة تُخوّل لنا التنقُّل في الحافلات بالمجان، غير أنه رغم ذلك كنت أواجه صعوبة في ذلك مع شركة نقل جديدة، التي لم تكن تستسيغ بسهولة الاستفادة من خدماتها مجانا، علماً أن ذوي الاحتياجات الخاصة يحظون برعاية تتضمّنها بعض الامتيازات من جلالة الملك محمد السادس نصره الله".

يستعرض مُنصف التضحيات الجِسام التي بذلتها أسرته في سبيل تأمين ديمومة ممارسته الرياضة، فوالدته كانت تمدُّه بمصروف جيب يومي رغم قِصر ذات اليد، أما شقيقه فقد كان يضبط له التوقيت في تداريب شاقّة بالغابة، يركب هذا الأخير دراجته الهوائية ويقل أخاه إلى هناك ثم يُسجّل الزمن الذي يقطعه شقيقه في مسافات قصيرة ومتواترة بين الأشجار، في إطار استعداداته وتقوية عوده تأهباً للاستحقاقات التي تنتظره.

"بارالمبياد طوكيو 2020".. نُقطة التحوُّل

عقدت لقاء آخر مع أيوب في ضواحي مدينة سلا، حيث المكان ضيعة سياحية اختارها لكي تتهيأ له كل ظروف التركيز حتى يتحدث عن كواليس رحلته في الألعاب البارالمبية "طوكيو 2020"، يُقرُّ العدّاء الشاب بأن عام 2021 كان الأفضل له رياضياً وعلى إثره سلكت حياته منحى آخر، بيد أنه يرفض استحضار نشوة هذه السنة دون أن يتوقّف عند التحديات التي واجهته، وكيف شيَّد إنجازه لبنةً بلبنةٍ، وتأرجح بين الصعود والهبوط، دون كللٍ وبسعي حثيثٍ نحو الهدف المنشود.

ببذلةٍ رياضية كما هي عادته، وبيدٍ يُمنى لا يخجل من إظهارها دون شعوره بأي مُركب نقص، أخذ أيوب يستعيد العهد الذي قطعه مع مدربه محمد السنداوي، رفع هذا الأخير سقف طموحه وأكَّد له قدرته على تحطيم الرقم القياسي في مسافة "400 متر" ضمن فئة T47": "بعدما أحرزت الميدالية البرونزية في بطولة العالم بدبي سنة 2019، جالست مدربي والتمس مني الوثوق به والإيمان بإمكانية تحقيقي رقماً عالمياً، فقلت له إنك تسخر فقط، لم أكن أتخيّل أن أولئك الأبطال الذين أُشاهدهم في التلفاز قد أُجاريهم وأنافسهم يوماً ما".

قَبل أيوب التحدي واندمج في نمط حياة صارم وصحي، كان يحلم فعلاً بأن يصبح بطلا بارالمبيا في طوكيو التي كان يفصله عنها أقل من 10 أشهر، وبات مهووساً بُمتابعة مقاطع فيديو الأبطال البارالمبيين في تخصصه وتحليل طريقة ركضهم وخططهم في السباقات، يقول صاحب الـ25 سنة عن ذلك: "من طبيعتي أنني لا أؤمن بنفسي في أغلب الحالات، لكن مدربي منحني شحنة معنوية متدفّقة، انخرطت في تداريب شاقة وفق برنامج مُحكم، كنت أقطن بـ'دوّارْ الدُّومْ' في الرباط وأضطر في بعض الأحيان عند توجهي إلى مركب الأمير مولاي عبد الله لخوض التداريب إلى الصعود خِلسة للحافلة دون أداء ثمن تذكرتي لعدم توفري على المبلغ المطلوب، كنت تحت الحد الأدنى من الإمكانيات وحاولت التعايش مع الأمر".

يسترسل سادني في حديثه قائلاً: "على بُعد ستة أشهر من انطلاق الألعاب البارالمبية التي تأهلت لها بفضل ميداليتي البرونزية في بطولة العالم بدبي، اتَّصل بي مدربي محمد السنداوي وطلب مني التوقف عن التداريب، فقد تم الإعلان عن تأجيل الألعاب البارالمبية بسبب فيروس كورونا، مادت بي الأرض عندها وتوقَّف كل شيء بالنسبة لي، أُصبت بخيبة أمل لكنها مؤقتة وما لبثت أن تلاشت مع تعاقب بضعة أيام، فقد عمدت إلى التأقلم مع الوضع واستأنفت تداريبي رغم عدم علمي بعد بالموعد الجديد لنسخة طوكيو".

كان أيوب مُنخرطا عندها في تداريبه اليومية خلال "الحجر الصحي" بسبب جائحة "كورونا"، يستعمل قارورة الغاز في المنزل لرفع الأثقال وتقوية عضلاته، ويقصد بُحيرة قريبة من البيت ليجري تمارينه هناك. عاوَد مدربه الاتصال به بعد بضعة أيام وقال له ما شكّل دفعة أكبر بالنسبة للعداء الشاب: "الله منحك فرصةً جديدة بعد تأجيل الألعاب البارالمبية، إذا كنا نطمح سابقاً إلى الفوز بالميدالية البرونزية أو الفضية في أحسن الأحوال، فالآن سنستهدف الميدالية الذهبية ويُمكننا تحقيق ذلك".

نَفَض سادني عنه كل مُخلّفات الماضي، وكُلّما اقترب الموعد الجديد لنسخة طوكيو الذي حُدّد في صيف سنة 2021 أخذ يرفع من نسق الاستعدادات، انتظم في معسكر إعدادي بمدينة إفران رفقة مدربه، وكانت تلك الفترة قاسية بحق بالنسبة له، ويقول عنها: "أمضيت 25 يوماً في معسكر مُغلق مع مدربي، شعرت بالفعل بقسوة التحضيرات وأنا بعيد عن والديْ، كان المُناخ يسوده القيظ والحرارة المرتفعة، ولمّا عُدت إلى الرباط أحسست بانخفاض إيقاعي في الركض، تملَّكني الهلع ولم أكن أعلم أن ذلك فقط بسبب اعتيادي على مرتفعات إفران وضرورة حاجتي إلى بعض الوقت للتكيُّف مع المرتفع الاعتيادي لمدينتي".

لم تَكنُ عملية المشاركة في الألعاب البارالمبية في طوكيو بتلك السّلاسة والانسيابية بالنسبة لأيوب، فقبل أيام قليلة من انطلاق المنافسات، أقام العداء رفقة آخرين من "ذوي الاحتياجات الخاصة" اعتصاماً لدفع الجامعة المعنية إلى تخصيص مستحقات تُساوي بينهم وبين المُشاركين في الأولمبياد من حيث القيمة المالية، قبل أن يُستجاب لمطالبهم في آخر الأيام التي تسبق انطلاق البارالمبياد.

"قبل بضعة أيام من الألعاب البارالمبية، كنا نعتصم أمام مقر الجامعة لتلبية مطالبنا، أثناء ذلك تابعنا سباق تتويج سفيان البقالي بالميدالية الذهبية، حرّك ذلك جوارحي ودمعت عيناي، كنت أدعو الله أن يُحقّق لي ما كتبه للبقالي"، يقول أيوب، الذي شدّ الرِّحال إلى طوكيو وهناك دخل إلى المرحلة النهائية والأهم في مُعادلة المنافسة على صعود "البوديوم".

دشَّن أيوب مساره في الألعاب البارالمبية بخوض نصف نهائي مسافة 400 متر فئة "T47" إلى جانب 16 متسابقاً آخر، يُعدُّون من جهابذة الرّكض في هذه المسافة والفئة، كان متخوفاً من المنافسين البرازيليين الذين يُجيدون هذا التخصُّص، بدأ السّباق وكاد يتعثّر من شدة الرّهبة في الانطلاقة، استعاد رباطة جأشه في ثوانٍ قليلة وتزوَّد بمخزون من الماضي حوّله إلى كل ما هو إيجابي، ثم شرع يكسب المساحات ويبتعد عن منافسيه، فإذا به يحل أولاً، ويُحطِّم رقما قياسياً بارالمبياً صَمد لأكثر من 13 سنة بـ47 ثانية و83 جزءاً من المئة.

شعر ابن مدينة الرباط بأن الحُلم يدنو منه رويداً رويداً، فلم يعد تفصله عن "البوديوم" سوى سباق نهائي واحد، وصبّ بذلك كافة تركيزه على هذا الموعد الذي يأتي يوماً واحدا بعد نصف النهائي، تناول وجبة العشاء في ذلك اليوم واستسلم جسده للنوم كما الأحلام، لكن بعد بضع ساعات نهض في الفجر من شِدةّ وجع البطن وأخذ يتقيأ، اخترقت الشكوك لكن ليس حد الإجهاز على مساعيه، كَابَر واعتصم بالصّبر وتجاوز الوعكة الصحية، ليأتي اليوم الحُلم والمُنتظر.

تناول الشّاب المغربي وجبة فطوره في الصباح الموالي، وعلى المدى المنظور سباق النهائي المُبرمج مساءً، كانت الأمطار تسقط دون توقُّف، قبل ساعات من المنافسة، قبَّلَ رأس مدربه وأكَّد له أنه سيكون راضياً عن نفسه مهما كانت النتيجة، وهاتف والدته داعياً إياها إلى التضرع لله، ثم أجرى تمارين إحمائية روتينية لكنها ممزوجة بعبارات تأكيدية ومصطلحات تُوجه للذات كي يشحذه هِمَّتها ويشحنها بالطاقة.

انطلق السِّباق، وما كان أيوب يخشاه من البرازيليين تجاوزه بعدما فَطِن خطتهم، بدلاً من التَّركيز على أحدهم، حاول ضبط السّباق وفق إيقاعه الخاص. قطع مسافة 250 متر الأولى وهناك أدرك أنه الأقرب والأوفر حظا للتتويج بالميدالية الذهبية، ازداد إيمانه بنفسه، وصل إلى خط النهاية أولاً لكن المفاجأة الأكبر بالنسبة له هو تحطيمه الرقم القياسي العالمي بتوقيت 47 ثانية و38 جزءا من المئة، فصرخَ افتخارا وإثباتاً للذات ثم سجد وحمل العلم المغربي.

شعر أيوب حينذاك أنه تغلّب على نفسه وقهر الصعوبات وقدّم نفسه للعالم بِرُمّته، ويقول في هذا النِّطاق: "فرحتي تضاعفت بعد توصُّلي برسالة ملكية تتضمّن تهنئة خاصةً من جلالة الملك محمد السادس نصره الله، جلبت اعتزازاً لا يُضاهى لأسرتي، أما والدتي فقد دبَّت في أوصالها مشاعر السعادة العارمة، وأحسست أنني أُسدّد لها قسطاً هزيلاً من الدَّيْن نظير ما قدّمته لي منذ ولادتي".

"بارالمبياد باريس 2024".. حُلم تُرجم إلى واقعٍ

يتطابق أيوب ومنصف أو يكادان في قصّتيْهِما بذات الحِبكة والنتائج، يُلاَحظ أن منصف مرَّ من مُنعرجاتٍ وعرة بدوره قبل بلوغه المُراد، وبدا شديداً وصلباً وصامداً أمام كل هذه الصُّعوبات، وقد يُسعفنا استعراض هذا الهدف الذي كان يُسطّره منذ البداية في إدراك حجم الإرادة التي تستولي عليه: "كان هدفي ولازال هو تحطيم الرقم القياسي في مسافة 400 متر سواء بالنسبة للأسوياء أو ذوي الاحتياجات الخاصة".

فرملت الإصابة التي تعرّض لها منصف في الألعاب البارالمبية "طوكيو 2020" مساره التصاعدي، فقد تسلّق قبلها المراحل وحقّق أرقاما جيدة في ملتقييْ مراكش وتونس، واستشعر عندها خيبة أمل كُبرى أكبحت جِماحه، لذلك سخّر سنة 2022 بالكامل للتعافي وإعادة التأهيل ثم التمرُّن، إلى أن استعاد تنافسيته ووصل إلى مستوى فاق مستواه قبل الإصابة، فجاءت بطولة العالم "باريس 2023" التي كان يضعها نُصب أعينه بتركيز تام.

"ما إن حللت بباريس حتى فُتحت شهيتي للكثير من الإنجازات، هي مدينة كنت أحلم بزيارتها منذ الطفولة، لقد توفّرت كل الظروف سواء جواً أو مكاناً أو حتى على مستوى استعداداتي كي أُحقّق شيئا مميزا. تجاوزت ربع النهائي ونصف النهائي بسلاسة وبأقل مجهود في مسافة 100 متر 'T12'، وهناك أصبح الحلم كأنه أقرب إلى الواقع"، يتحدّث مُنصف عما سبق نهائي مسافة 100 متر في فئة "12T" التي تضم العدائين ذوي الرؤية المحدودة جدا على مستوى البصر، والذين يملكون خيار الاستعانة بمرافق في السابق أو الركض بمفردهم، بخلاف فئة "T11" الذين يضعون غطاء على أعينهم كإجراء يؤمّن نزاهة المنافسة ويصير من الإجباري لجوءهم إلى مرافق.

كان مُنصف حذراً من المدرسة الأمريكية المُمثّلة في النهائي نظراً لتمرُّسها في هذا التخصص، بيد أن هذا الحذر لم يكن أقوى من قوة العزيمة التي يحفل بها، فقد أفلح العداء المغربي في الظفر بميدالية فضية بعد حلوله ثانياً، قبل أن يُشارك في مسافة 400 متر التي أُقصي منها بدعوى انزياحه عن الممر المخصص له، وهنا يقول: "كيف لهم أن يستبعدوني بسبب انزياحي عن الممر، فأنا لا أرى إلا القليل".

بعد العودة من فرنسا إلى المغرب، حمل الشاب المغربي على عاتقيْه هدفاً واحداً لا غيره؛ وهو إحراز الميدالية الذهبية في الألعاب البارالمبية "باريس 2024". جمعني بمنصف لقاء بمنزله في مدينة سلا، كان حار الاستقبال ومُبتسماً ولا يكف عن الترحيب بي، في هذه الجلسة حكى مُغامرات بارالمبياد باريس وكيف دبَّرها وعاش هذه التجربة التي ستظل دون أدنى شك راسخة في أعماقه حتى الممات.

أدمن مُنصف بشكل يفوق ما مضى على التداريب اليومية، ومثّل ذلك حالة استنفار وسط أسرته وأصدقائه المقربين، الكل التحم في اتجاه واحد والجميع انخرط في مساعدة هذا الشّاب الواعد. استمرت التداريب القاسية لعدة أشهر وحلّ بعدها شهر غشت، مُنذراً باقتراب الاستحقاق الأهم للعدّاء المغربي. اختار هذا الأخير خوض غمار مسافتيْ 100 متر و400 متر، الأولى كانت مُبرمجة في بداية الألعاب، شارك في نصف النهائي لكنه أُقصي وكان بعيداً عن مسار التألق.

"مِن محاسن شخصيتي أنني أنهض سريعاً بعد كل سقوط، أستغر الله وأتلو مع نفسي آياتٍ من القرآن وأستأنف التطلُّع إلى الأمام، رغم أنني عشت ما بين الـ30 من غشت موعد نصف نهائي 100 متر الذي أُقصيت منه والـ4 من شتنبر الذي خُضت فيه نصف نهائي 400 متر كالجحيم، كانت مرحلة عصيبة للغاية، كُنت أتخفّى في القرية الأولمبية حتى لو أُصادف أفرادا آخرين وأظل مع نفسي فقط أُعالجها وأُضمِّد جراحها"، يستطرد بوجا.

انخفض سقف التوقعات والمُراهنة على مُنصف في مسافة 400 متر من أغلب المُحيطين به في الوفد المغربي المشارك ضمن البارالمبياد، وتعاظم ذلك بعد إقصائه من نصف نهائي 100 متر، ومن هذا المُنطلق استمَدَّ الشاب قواه وتجدّدت طاقاته، كان مدفوعاً بالرغبة في السباحة ضد تيار الانتظارات، وإثبات نفسه أمام كل المرتابين الذين شكّكوا يوماً في قدراته وإمكاناته.

على عكس مسافة 100 متر، خاض مُنصف نصف نهائي سباق 400 بشكل مثالي واستطاع التفوق على التايلاندي تيسومان كيسانابونغ مُحقّقا رقماً قِوامه 48 ثانية و68 جزءاً من المئة، ليتأهل إلى النهائي ويجد نفسه في مواجهة مع التونسي روي جبابلب والأمريكي نواه مالون والتركي أغبولوت أوغوز، الذي كان مقررا في اليوم الموالي.

يقول مُنصف بوجاً عن يوم النهائي: "لدي طقوس خاصة في يوم السباقات، فقد هاتفت والدتي ولم أُخبرها عن تفاصيل النهائي حتى لا تنشغل بي وتعيش الضغط، أديت صلاتي وردّدت أدعية وآيات قرآنية لكي يدُبَّ الاطمئنان أكثر في نفسي"، ويُحاول العداء المغربي وصف أجواء ما قبل السباق، حيث كانت الشتاء تهطل بغزارة دون توقف، مما فرض إجراء عمليات الإحماء في إحدى الخيمات المُنصَّبة في مرافق الملعب.

قبل أن تُطلق صافرة بداية سباق النهائي، كان مُنصف يشغل الممر الثامن، ومن خلفه الأمريكي مالون نواه ثم التونسي جبابلب والتركي أوغوز أخيراً. رغم جَسامة المُهمة، شعر المغربي بتحرُّرٍ شبه مُطلق كأنه في طريقه إلى التحليق في سماء العاصمة الفرنسية باريس، بدأ السباق وظلّ لسانه يلهج بعبارة "يا قوي يا الله"، كأنه يزيد من إيمانه بالعدالة الإلهية وضرورة مكافأة على كل المجهودات التي بذلها رياضياً وكل المصاعب التي واجهها كذلك في تحدي المرض.

نَاقَش مُنصف مجريات السباق كما خطّط له، كان مُلزم بالابتعاد بمسافة عند الوصول إلى 300 متر الأولى، ومع محدودية رؤيته استعان بالسّمع ليرصد خطى ومسار منافسيه المتسابقين، أخذ يرفع الإيقاع كلما شعر بأنه أشياء تتحرّك قريبةً منه، يحثُّ الخطى ويطوي المسافات بنسق أكبر إلى حدود خط النهائي، ثم أدرك أنه حلّ أولاً وأن ما لازم مسامعه لم تكن سوى سيول المطر الذي كان يتساقط، في حين أن المتسابقين الآخرين كانوا متأخرين عنه في الخلف، وقد قطع المسافة في زمن قدره 48 ثانية و62 جزءاً من المئة.

رد الاعتبار

أول ما قام به العداء المتوج حينئدٍ بالميدالية الذهبية لمسافة "400 متر" فئة "T12" عند وصوله إلى خط النهاية مُظفّراً ومُنتصرا هو السجود شكرا لله، وأعقب ذلك بوضع يده على فمه، في إشارة إلى إخراسه لكل المُشكّكين في أي لحظة من اللحظات، حاول مُنصف آنذاك أن ينوب عن كل الأشخاص من "ذوي الاحتياجات الخاصة" في التأكيد على أنهم مُنتجون أيضاً ويملكون قُدرات، ودَّ لو يُصوّب بهذا الفوز أفكار الكثيرين في المجتمع ممن يستهينون بقُدرات هذه الفئة.

مثلما مُنصف، شعر أيوب بإحرازه الميدالية الذهبية في نسخة "طوكيو 2020" كما لو انتصر على الجميع، تذكّر بدوره كل ما مرَّ منه وكيف كافأه الله والقدر بعد سنوات من المعاناة، ومنذ تلك اللّحظة أحس العداء المغربي بأنه قدّم أوراق اعتماده ولم يعد له ما يُثبت سوى لنفسه مستقبلا.

في آخر دقائق لقائي في الخميس الماضي مع منصف وأيوب، شدّدا على أن فئة "ذوي الاحتياجات الخاصة" بالمغرب خصوصا لازالت تستحق اهتماماً أكبر من كافة الجوانب، وعند الحديث عن المجال الرياضي، لا يُخفيان أن هؤلاء الرياضيين لا يستأثرون بالاهتمام سوى بالأيام القليلة التي تلي تتويجاتهم في الألعاب البارالمبية، وختم أيوب بالقول في حرقة بادية: "الرياضيون 'الأسوياء' يجذبون الانتباه طيلة حياتهم، أما نحن فسرعان ما نُنسى بعد أول أسبوع من إنجازاتنا".

عرض المحتوى حسب: